فصل: تفسير الآيات (45 – 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]. فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته، قال أبو عثمان: أسوأ الناس حالًا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصل إلى حرم القرب {وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]. رموه وحاشاه صلى الله عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم، والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون؛ وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9]. قال ابن عطاء: أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانًا للهدى فينتفع به من كان موسومًا بالسعادة منورًا بتقديس السر عن دنس المخالفة {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا {وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السماء بُرُوجًا وزيناها للناظرين} [الحجر: 16]. إشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو {وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ} [الحجر: 17]. إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلاله ذاته عز وجل عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق {إِلاَّ مَنِ استرق السمع} اختلس شيئًا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر: 18]. نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولًا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم، وقيل الإشارة في ذلك: إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظانا من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اهـ ولا يخفى مافي تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر، وقيل: الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلودنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئًا.
{والأرض مددناها وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شيء مَّوْزُونٍ} [الحجر: 19]. إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلى جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أولياه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير، وفي الخبر: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» ثم أنه تعال لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته.
وقال بعضهم: نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة، والأزهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك، وقيل: أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكان الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} بالتدابير الجزئية {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} [الحجر: 20]. ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، قال بعضهم: إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلظف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله.
{وَإِن مّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء {وَمَا نُنَزّلُهُ} في عالم الشهادة {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21]. من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده، قيل: إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العبادة إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار، ومن هنا قال حمدون: إنه سبحانه قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول فأين تذهبون؟ ويقال: خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال: النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك {وَأَرْسَلْنَا} على القلوب {الرياح} النفحات الإلهية {لَوَاقِحَ} بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء: رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكريم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقى من حرمها {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء} أي سماء الروح {مَاء} من العلوم الحقيقية {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} وأحييناكم به {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ} أي لذلك الماء {بخازنين} [الحجر: 22]. لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ} القلوب بماء العلم والمشاهدة {وَنُمِيتُ} النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل: نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة؛ وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي: نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق: نحيي القلوب بنور الايمان ونميت النفوس باتباع الشيطان؛ وقيل وقيل: {وَنَحْنُ الوارثون} [الحجر: 23]. للوجود والباقون بعد الفناء {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ} وهم المشتاقون الطالبون للتقدم {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين} [الحجر: 24]، وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناء والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل: المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والاعراض، وقيل: الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل: الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل: غير ذلك {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28]. فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماء بشرًا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد الإله، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} [الحجر: 29]. أضاف سبحانه الروح إلى نسه تشريفًا لها وتعظيمًا لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. إلا إبليس لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه {أبى أَن يَكُونَ مع الساجدين} [الحجر: 31]، ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا {قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 33]. غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضًا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل:
لو قال تيها قف على جمر الغضى ** لوقفت ممتثلًا ولم أتوقف

وقال بعض أهل الوحدة: إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ أيضًا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الإثنينية.
وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقًا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية، ومن هنا قال قائلهم:
ما آدم في الكون ما إبليس ** ما ملك سليمان وما بلقيس

الكل عبارة وأنت المعنى ** يا من هو للقلوب مغناطيس

وقال الحسين بن منصور:
جحودي لك تقديس ** وعقلي فيك منهوس

فمن آدم الاك ** ومن في البين إبليس

وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الواقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]. طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربًا من ربه ازداد خضوعًا وخشوعًا {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} [الحجر: 35]. لم يد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافًا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناهـ.
{قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ في الأرض} أي لأزينن لهم الشهوات في الحهة السفلية {وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]. {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40]. الذين أخلصتهم لك اصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون وحد سواك، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه، وفي الخبر «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر» أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.
{إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42]. أي الذي يناسبونك في الغوايم والبعد {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43]. {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار.
أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال: كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي: أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثًا فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42]. قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي: ويقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200]، وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا اسعذت بالله تعالى منك قال إبليس: صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى {لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44]. فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب، نسأل الله تعالى أي يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.تفسير الآيات (45 – 48):

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما ذكر الكافرين وما جرهم إلى الضلال، وجرأهم على قبائح الأعمال، ذكر المخلصين فقال- مؤكدًا لإنكار المكذبين بالبعث: {إن المتقين} أي العريقين في هذا الوصف؛ والمتقي: من جعل الإيمان بإخلاصه حاجزًا بينه وبين العقاب {في جنَّات وعيون}.
ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس والأمن، قال تعالى: {ادخلوها} أي يقال لهم ذلك {بسلام} أي سالمين من كل آفة، مرحبًا بكم ومسلمًا عليكم حال الدخول {آمنين} من ذلك دائمًا.
ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر، قال: {ونزعنا} أي بما لنا من العظمة {ما في صدورهم من غل} أي حقد ينغل أي ينغرز في القلب حال كونهم {إخوانًا} أي متصافين، حال كونهم {على سرر} جمع سرير، وهو مجلس رفيع موطأ للسرور {متقابلين} لا يرى بعضهم قفا بعض؛ في آخر الثقفيات عن الجنيد رحمه الله أنه قال: ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب! وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد! ولما كان النظر في الدوام والمآل بعد ذلك، قال: {لا يمسّهم فيها نصب} أي إعياء وتعب وجهد ومشقة {وما هم منها} ولما كان المنكى في كل شيء إنما هو الإكراه، بني للمفعول قوله: {بمخرجين}.اهـ.

.قال الفخر:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)}
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {إِنَّ المتقين} قولان:
القول الأول: قال الجبائي وجمهور المعتزلة: القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي.
قالوا: لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك.
والقول الثاني: وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به.
وأقول: هذا القول هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضاربًا وقاتلًا كونه آتيًا بجميع أنواع الضرب والقتل، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيًا كونه آتيًا بجميع أنواع التقوى، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيًا بالتقوى، لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملًا على تلك الماهية، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقيًا، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقيًا، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار.
إذا ثبت هذا فنقول: ظاهر قوله: {إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ} يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن شيء واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضًا فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40]، وعقيب قول الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42]. فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر، فثبت أن قوله: {إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ} يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولًا واعتقادًا سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين، وكلام ظاهر.